بقلم الاستاذ / فتحي عثمان
08/12/2024
"إلى روح المفكر الفنان عبد الله بولا، وإلى مكابدات نجاة محمد علي في مدها ظلال شجرة وارفة"
1
يمكن المجازفة بالقول بأن كل مفكر أصيل مدفوع في مجاله الإبداعي إلى رسم وتقصي شجرة
نسب ما؛ أي التحري الجينولوجي لظاهرة من الظواهر في بعديها التكويني والتاريخي. شجرة نسب الغول للفنان الناقد الثقافي عبد الله أحمد بشير (بولا) 1943-2018 هو أحد هذه الأعمال.
في الثقافة التقليدية النسابة هو الرجل العالم بالأنساب وطبقاتها، تماما كما كان قديما الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وحديثاً وفي شمال السودان موطن بولا كان هناك عون الشريف قاسم صاحب كتابي "موسوعة القبائل والأنساب في السودان" "وقاموس اللهجة السودانية"، وهناك النسابة العالم عبد الله الطيب. أما في أنحاء السودان الأخرى شرقاً وغرباً وجنوباً والقارة الافريقية كذلك هناك العارفين بالأنساب حيث يتداخل علمهم بالأنساب مع بنية وتفاعلات القوة الاجتماعية بمظاهرها المختلفة. فالكاهن والساحر والشيخ، في بعض القبائل، يحفظون شجرة نسب قومهم "كقيامة" أي سند قيام أمام الآخر المغاير. وبناء على شجرة النسب، يختلف تكوين العشيرة عن تكوين الاثنية، كما يقول بذلك موريس غودليه في كتاب "القبائل في التاريخ وفي مواجهة الدولة". ففي القبيلة أو العشيرة يسهل التصاهر لوضوح أصل وفروع شجرة النسب، ولا يمكن ذلك في الإثنية الواحدة بسبب من تداخل الفروع وتراجع الأصل. وينجر وراء المصاهرة مسائل التوارث والحكم وموازين القوى الأخرى.
2
كان ذلك مدخلاً لازماَ لفكرة "نسب الظاهرة" عند بولا، والذي كان مدخلي له يقع ضمن تمارين في استراتيجيات العنوان حسب رولان بارت بربط العنوان بالتأثيرين الدلالي والنفسي. وكان العنوان- ولا زال- حسب هذه التمارين يعمل كمنصة قفز عالية نحو مياه النص، ويتجاوز فكرة "موت المؤلف" عند بارت نفسه. وبناء على هذه التمارين كانت هناك العناوين المواربة والجسورة، وكان الهدف هو تبين عنصر "الإحالة" وطبقاتها في العنوان وكذلك ممارسة العاب الدلالة وملاحظة انكسار عصا الدلالة في مياه النص، وكل ذلك بغرض شد الإحالة نحو مداها الدلالي الأقصى، كقوس متوترة. وكان العنوان الأول هو " بداية مشهد مصرع الإنسان الأول" وهو مقال في إعادة تعريف الفن التشكيلي، وتقديم بولا لتعريفه الجديد كان مبنياً على افتراض "موت" التعريف السابق له وحامليه كذلك. وكانت المناسبة عنده هي "مأساوية" هذا المصرع، ولكأن القارئ يشاهد توالي مشاهد دراما تراجيدية اغريقية. وفيه يعرف بولا الفن التشكيلي بأنه "علم صياغة أشكال المرئيات" وليس هو علم الشكل، وهنا يدلف إلى "لبرلة" التشكيل، بالتمليك الإجمالي، وليس بالمضمون السياسي؛ وهي مقاربة أقرب إلى تسليم زمام التشكيل إلى "ثقافة البوب". وهو تعريف "فسيح" يدمج فيه صناع العناقريب والسمكرية ضمن الفنانين لجهودهم "الإبداعية" في صياغة الأشكال. وحتى لا تأخذنا التفاصيل الجمالية بعيداً نرجع إلى استراتيجية العنوان المحيلة إلى تقابلية الموت والمولد في تراجيدية المشهد التشكيلي وذلك ما يمكن الإشارة إليه بانفساح الدلالة تحت تأثير العنوان حيث يمثل العنوان بهوا واسعاً يقود إلى حجرات النص.
3
وبالعودة إلى نزوع المفكر نحو تقصي شجرة النسب نجد أن العنوان الجانبي لمقال وكتاب نسب شجرة الغول هو: " في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الانسان في السودان: أطروحة في كون الغول الاسلاموي لم يهبط علينا من السماء" وهو عنوان لورقة قدمها لمؤتمر المنظمة السودانية لحقوق الانسان في هولندا في عام 1996. هنا يتبدى دور المفكر النسابة في العمل وفق "منهج الجينولوجيا" في تكسير طبقات الظاهرة عبر التتبع التاريخي وصولاً لتقديم "تأويل" للمعطي – في الغالب- المأساوي للظاهرة محل التناول، وهو هنا موضوع الأسباب "البنيوية" لظاهرة انتهاكات حقوق الانسان في السودان في فترة حكم نظام الانقاذ، يقول بولا: "... لا أتوقف عند مستوى الفضح والإدانة لممارسات النظام، وإنما أذهب إلى محاولة الكشف عما أسميه ب "البني الأساسية" لانتهاكات حقوق الانسان".
إذن كل ممارسة في تتبع شجرة نسب الظاهرة إنما هي بحث بنيوي تاريخي، ويتسق ذلك مع وظيفة بولا كناقد ثقافي يعتمد الجينولوجيا كمنهج دراسة وتأويل. ويحيل ذلك إلى الإرث الجينولوجي منذ ابن خلدون ومحاولة فهم ظاهرة الاجتماع، ولكن المنهج كان "معولاً" اخترعه فردريك نيتشه في كتابه "جينولوجيا الاخلاق" ولم ينفك المنهج بعدها في الازدهار إذ توجه ميشيل فوكو بتفكيك مفاصل القوة في الأبنية والممارسات الاجتماعية في كتبه مولد العيادة، وتاريخ الجنون، ومولد السجن. وربما يمثل كتاب جورجيو اغامبين "الانسان المقدس: القوة والسيادة والحياة العارية (1995)" مقاربة جينولوجية تشبه استراتيجيات العنوان في كتاب "بداية مشهد مصرع الانسان الممتاز" وإن كان المنهج الجينولوجي أقرب إلى شجرة نسب الغول.
وفي الغالب يجازى الغوص الجينولوجي العميق بدرر من التأويلات. وبالعودة إلى العنوان نجد أن العنوان "يحيل" إلى دلالة سودانية خاصة؛ وسودانيتها يفرضها السياق لا غير، وفي القلب من السياق سؤال الطيب صالح الشهير: من أين جاء هؤلاء الناس؟ وهو سؤال اكتسب في السياق المحلي شهرة موازية للسؤال التراثي الخالد: شليل وين راح؟ (مع اختلاف أمزجة المجيء الهاجم والرواح المحزن). لربما كان سؤال الطيب صالح استنكارياً بلاغي المنحى (ريتوريكال)، ولكن في ظل غياب "شجرة النسب" الفاضحة استحال إلى سؤال "حقيقي" تجاوز البلاغة منتقلا إلى الواقع انتقالا يشبه حركة أبطال فيلم "ماتريكس" أو "انسيبشن" في تنقلهم بين واقع متعدد الأبعاد. فهل يمثل شجرة نسب الغول مساهمة في الإجابة على السؤال بأدوات منهج الجينولوجيا؟
لا شك أن محاولة تقصي شجرة نسب الغول "تحيل" إلى رعب المغارب في الطفولة وإلى الظلام؛ ولذلك النوم المشقق بمخاوف الخطف والتخطف. ولا غرابة أن استعصى الغول بغرائيبته على الترجمة، إذ احتفظ باسمه كما هو في اللغة الإنجليزية، حيث يبدو المترجم الإنجليزي مدركاً ليس فقط لغرائبية الاسم، بل لمدلولاته التي يشق نقلها إلى لغة شكسبير. إن الغول الذي تصدى لتتبع شجرة نسبه عبد الله بولا كان يرعب الأطفال وتغذى وشبع من مخاوفهم حتى أصبح غولاً يرعب الأوطان. ولربما احتاج المثقف السوداني إلى "جن لوجيا" لفهم وتفسير "الجن الكلكي" الذي يلتهم البلاد اليوم.
أترك ما تبقى من مساحة خضراء للقراء في تقصي "جينولوجي" لعلاقة المفكر الأصيل وأشجار النسب، استلهاماً لتراث بولا النقدي.
عبد الله بولا: بداية مشهد مصرع الانسان الممتاز، سلسلة مقالات 1976-1977 تحرير وتقديم نجاة محمد علي، الطبعة الأولى، مؤسسة الشارقة للفنون، 2016
عبد الله بولا: شجرة نسب الغول: في مشكل الهوية الثقافية وحوق الانسان في السودان أطروحة في كون الغول الاسلاموي لم يهبط علينا من السماء، جمع وإعداد نجاة محمد علي، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، السودان،
Comments